samedi 2 février 2019

المواطن "ع"

 جلس "ع" يتأمل فنجانه يحاول أن يرى الجزء المملوء بدل الجزء الفارغ، ليكون متفائلا، فلم يستطع فأمام عينيه يمر شريط حياته، كان شابا يملأه الأمل بأن يصبح فنانا تشكيليا ذائع الصيت، لوحاته تباع بالمزاد العلني بأثمان خيالية، فيأخذ منها ما يحتاجه، والباقي يهبه لجمعيات خيرية. بعد تخرجه من معهد الفنون التشكيلية، وجد نفسه مندفعا فلوحاته تعكس المعاناة اليومية لأبناء شعبه ووطنه، وكل من عاينه في ورشته وهو يرسم استعدادا لأول معرض له يهنئه ويشجعه.
اكتمل العدد المطلوب، فزاره مسؤول عن المتحف وعاين بدوره اللوحات، "مواضيع مهمة" قالها المسؤول وهذا هو الفن المطلوب، 'تبارك الله عليك حامل هم: المتسولين، والعاطلين، والمرضى بدون تطبيب، والمنفيون في أقاصي الجبال، و.و.و" واستطرد "طلبك سيحال على إدارة المتحف. وستتوصل بالجواب عما قريب" وانصرف.
وتوالت الأيام ولا جواب من المتحف، إلا سوف نرى، سوف نحيل طلبك على ...، سنحتاج لبعض الوقت، وإذا بالأيام تصبح أسابيع، ثم شهور، ثم بضع سنين، فكشر الجوع عن أنيابه، فلم يعد يملك سوى فرشاته، وملوناته، ولوحاته التي خط فيها باللون عن مكنونه وما يعتريه من إحباط.
فكان يقاوم الجوع، والعطش، وقلة الملبس، بدأت الأمراض تزحف عليه، وباب المتحف لم يفتح في وجهه بعد. "صديق لي يريد اقتناء لوحة من لوحاتك" "كيف وهو لم يراها بعد" "صديقي، أنا أردت مساعدتك حتى يمكنك سد رمقك، فالرجل يمكنه شرائها لأنه يعشق هذا الفن" فيقول فرحا:" وأخيرا يبتسم لي الحظ"
جدران الورشة المترهلة تهتز من صيحة صدرت من "ع" الذي يردد" كيف يمكن أن يتردى الفن الهادف المتزن إلى هذا الدرك؟ كيف يمكنك أن تطلب مني ثمنا لا يليق حتى باللوحات الرخيصة التي تباع بدريهمات في الأسواق؟". يرد الشاري ببرودة دم "هذا هو البيع والشراء قدمت لي سلعة وأنا أعطيتك ثمنها"
كان يوما مشهودا في الدرب، خرج جميع السكان ليشهدوا "ع" وهو يعدم لوحاته الواحدة تلو الأخرى، يمزقها ويفتتها ويكومها ويضرم فيها النار، ويبدأ يدور حولها وهو يرقص رقصة الموت مثل الهنود الحمر، ويصدر أصواتا تشبه الأنين، ويزفر زفرات تقطع الأكباد ندما على ما ضيع من سنين عمره وهو يحلم بغد مشرق، وأن اسمه سيدخل تاريخ الفنون التشكيلية، ويكتب بماء الذهب كالمعلقات بأن ريشته حملت ألوان البؤس والشقاء والحرمان والظلم الذي يعيشه أبناء وطنه.
"الله يخليك صاوب لي شي صورة فيها جمال الطبيعة" يستفيق "ع" من سفريته في الزمن، يرفع عينيه إلى الذي طلب منه أن يرسمه نظر إليه "ع" مليا ثم قال" عن أي جمال تتحدث في وطن سرق جمال طبيعته، ماذا سأرسم؟ غابات لم يعد لها وجود، أرسم وجوها غابت عنها الابتسامة، أرسم متسولين أمام أبواب المساجد يستجدون دريهمات، أرسم أشباح لشباب نخرهم سم المخدرات، أرسم دمع أبناء امرأة أضرمت في جسدها النار من حرقة الظلم والحكرة، أرسم ثروات بلادي تبدد برا وبحرا وجوا، أرسم أجساد طرية كانت تحلم بالمستقبا وهي تطفو على مياه المتوسط، أرسم جماجم من سيعطونا العلم وهي تتكسر، ماذا سأرسم في وطن سرق مني الأمل، والتفاؤل، لم يعد هناك ما يرسم، فالظلم والطغيان ألجم عقلي وجز إبداعي، فلم أعد أملك سوى الحلم."
وقف الرجل مشدوها وقال "لا خير في وطن يئد أبنائه، ويقتل فيهم أسمى شيء يملكونه، الأمل. نعم فالطغيان يولد الحرمان" وذهب إلى حاله، بينما "ع" ما يزال ينظر إلى فنجانه وهو يحلم، ولكن هذه المرة كانت نظرة فارغة. علقت الجثة بالواقع بينما عقله حلق بعيدا بحلمه حتى لم تعد لديه فرصة للعودة، حينها أحس بالسعادة فحريته في حمقه.
فنهض وبدأ يرسم على الرصيف آلام وطنه بألوان لا يفهمها سواه، بينما الناس يتحسرون عليه ويرمونه بقطع النقود.


يوم 30/01/2019